تاريخ التفسير ومراحل تطوره في العهد النبوي وعصر الصحابة
المرحلة الأولى: العهد النبوي.
من خلال تعريف التفسير السابق في درس: مفهوم التفسير والتأويل تعريف التفسير لغة واصطلاحا تعريف التأويل لغة واصطلاحا يتبين أن مفهوم التفسير المتأخر الذي يدخل فيه حتى شرح المفردات لا يمكن أن يصدق على العهد النبوي، إذ أمر فهم اللسان العربي الذي نزل به القرآن حسم قبل أن ينزل القرآن ولعل البعض يفهم من قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى تفسير كل آية من القرآن لصحابته رضوان الله عليهم، ولكن هذا فهم مبالغ فيه وغير دقيق، إذ أن قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} يعني تبيين ما يحتاج منه إلى بيان، والعمل بالكتاب أول العمل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام الكتاب في الناس عملا، وكان الصحابة يعرفون معاني القرآن ويتذوقونها تذوقا، لكونهم عربا خلصا متمتعين بمزايا هذه العروبة ومن صفاء القلوب، وذكاء العقول، وسيلان الأذهان، وقوة الحافظة، ولأنهم شاهدوا الوحي والتنزيل، وعلموا من الظروف والملابسات ما لم يعلمه غيرهم، وسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه غيرهم، ورأوا من أحواله عليه السلام ما لم يره غيرهم.
وقد كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه من أعلم الصحابة بعلوم القرآن ولا سيما علم أسباب النزول، وعلم المكي والمدني، وعلم قراءاته. روى البخاري بسنده عنه أنه قال: "والله الذي لا إله غيرهما من آية من كتاب الله إلا وأعلم أين نزلت وفيم نزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه المطي لركبت إليه" .
فإن خفي عليهم من القرآن شيء لم يدركوه بفطرتهم اللغوية، ومعارفهم المكتسبة، رجعوا فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعلمهم إياه، فمن ثم تجمع لهم من علم القرآن شيء كثير.
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عنه بلفظ: لما نزلت: {"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: "يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم"} . ولفظ مسلم: {فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: "يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم"} .
المرحلة الثانية: عصر الصحابة.
أولا: طبيعة التفسير في عصر الصحابة:
قام الصحابة بالقرآن كما تنزل عليهم فاصطبغت حياتهم به، وأصبحوا مصاحف يمشون على الأرض، فلم يحتاجوا إلى عناء كبير للوصول إلى معاني القرآن لأن قامت ماثلة بأنفسهم، لكن لما اختلطت الألسن ودخلت العجمة حتى في الجزيرة العربية احتاج الأمر إلى تدارس كتاب الله، وبيان معانيه التي قد تخفى على من استعجم لسانه، ولم ينهض بالكتاب عمله، فعقد الصحابة مجالس لبيان كتاب الله ومنهم ابن عباس بأمر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى البخاري عن ابن عباس، قال: "حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهو يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه" فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب.
وقد ذكر الإمام السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" مسائل ابن الأزرق وأجوبة ابن عباس عنها، وخبرها أن نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر زعيما الخوارج، سألا ابن عباس فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس رضي الله عنه: سلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: {عن اليمين وعن الشمال عزين} [المعارج:37]؟ قال: العزون: حلق الرفاق، قال: هل تعرف العرب ذلك؟. قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا إليه يهرعون حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
قال: أخبرني عن قوله: {وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة:35]؟ فقال: الوسيلة: الحاجة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
...
إلى آخر المسائل وأجوبتها، وهي تدل على طبيعة هذه المرحلة في التفسير، إذ تقتصر على تفسير بعض المفردات الغريبة عند بعض الناس ومنهم الخوارج الذين كفروا المسلمين، لأن عجمة اللسان أهلكتهم، كما يقول الحسن البصري رضي الله عنه.
ثانيا: طبيعة الخلاف المنقول عن الصحابة في التفسير.
يلخص الجواب عن هذه المسألة الإمام ابن تيمية رحمه الله في رسالته في أصول التفسير فيقول:
"الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان:
الصنف الأول:
أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الأخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى : {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}.
فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم علما وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله: {ومن أعرض عن ذكري} [طه:124] ما ذكره؟ فيقال له: هو القرآن مثلا، أو هو ما أنزله من الكتب. فإن الذكر مصدر والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. فلإذا قيل ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر...
شارك
شارك
إرسال تعليق