الاستعارة ومنزلتها في البلاغة -1-
نبذة عن الاستعارة
قال الإمام في أسرار البلاغة: اعلم أن الاستعارة أمدّ ميدانا، وأشد افتتانا، وأوسع سعة وأبعد غورا، وأذهب نجدا في الصناعة وغورا من أن تجمع شعبها وشعوبها، وتحصر فنونها وضروبها، ومن خصائصها أنها تعطيك كثيرا من المعاني حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر، وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة مالم تكنها، إن شئت أرتك المعاني التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها الظنون. اهـ
إطلاقات الاستعارة
للاستعارة اطلاقان:
1. المعنى المصدري
والمعنى المصدري هو فعل المتكلم أي استعمال لفظ المشبه به في المشبه بقرينة صارفة عن الحقيقة. وأركانها بهذا المعنى ثلاث:
- مستعار وهو اللفظ.
- مستعار منه وهو المشبه به.
- مستعار له وهو المشبه.
2. المعنى الاسمي
المعنى الاسمي هو اللفظ المستعمل في غير المعنى الموضوع له لمناسبة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المستعمل فيه مع قرينة تصرف عن إرادة المعنى الأصلي كقولك رأيت أسدا تعني رجلا شجاعا، وبحرا تريد جوّادا، وشمسا تريد إنسانا مضيء الوجه متهللا، وسللت سيفا على العدو تقصد رجلا ماضيا في نصرتك.
فأنت بهذا قد استعرت اسم الأسد للرجل الشجاع فأفدت بهذه الاستعارة المبالغة في وصفه بالشجاعة وإيقاعك منه في نفس السامع صورة الأسد في بطشه وإقدامه وشدته إلى غير ذلك من المعاني المركوزة في طبيعته الدالة على الجرأة وأفدت باستعارة البحر له سعته في الجود وفيض الكف، وباستعارة السيف له إعطائه ما لها من البهاء الحسن الذي يبهر العيون ويملأ النواظر، وباستعارة السيف له إعطائه ما له من الحدة والمضاء.
والاستعارة هي تشبيه حذف أحد طرفيه وأداته ووجه الشبه لكنها أبلغ منه لأننا مهما بالغنا في التشبيه فلا بد من ذكر الطرفين وهذا اعتراف بتباينهما وأن العلاقة بينهما ليست إلا التشابه والتداني فلا تصل حد الاتحاد اذ جعلك لكل منهما اسما يمتاز به دليل على عدم امتزاجهما واتحادهما، بخلاف الاستعارة فإن فيها دعوى الاتحاد والامتزاج وأن المشبه والمشبه به صار شيئا واحدا يصدق عليهما لفظ واحد، فإذا قلت رأيت بحرا يعطي البائس والمحتاج كنت قد جعلت الجواد والبحر شيئا واحدا حتى صح أن تسمي أحدهما باسم الآخر، ولولا ما أقمت من الدليل -القرينة- على ما تريد لما خطر ببال المخاطب غير البحر الذي تعورف بهذا الاسم.
ومن قبل اشترط في الاستعارة تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به فلا يذكر وجه الشبه ولا أداته لا لفظا ولا تقديرا، كما لا يجمع فيها بين الطرفين على وجه ينبئ عن التشبيه بأن يكون المشبه به خبرا عن المشبه كقوله عليه الصلاة والسلام للأنصار "أنتم الشعار والناس الدثار" أو في حكم الخبر كما في بابي كان وإن نحو أن محمدا قذى في عين إبراهيم. والمفعول الثاني في باب ظن كقوله عيه السلام: "لا تتخذوها كراسي لأحاديثكم" في الطرق والأسواق. أو حالا نحو قول الشاعر:
بدت قمرا ومالت حوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
أو صفة كقولك هذه امرأة قمرا أو مضافا كلجين الماء في قول الشاعر:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء
أو مصدرا مبينا لنوعه نحو قوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}. أو مبينا بالمشبه صريحا أو ضمنا كقوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فقد بين الخيط الأبيض بالفجر صريحا وفي ضمنه تبيين الخيط الأسود بالليل، فكل هذا تشبيه محذوف الأداة.
قال عبد القاهر في بيان هذا: من هنا
إرسال تعليق