دراسة العربية ومقارنة لهجاتها - الأسواق العربية الشهيرة
يرى الأستاذ الرافعي (1881م – 1937م) أن أهل العلم في أروبا عنوا منذ القرن التاسع عشر الميلادي بالبحث في مظاهر العقل الإنساني بحثا علميا مبنيا على أصول وقواعد مقررة كسائر العلوم الأخرى، فدرسوا الأديان والعادات، ولمّا أرادوا مقابلة ذلك بعضه ببعض لتعيين المواضع المتداخلة منه، اضطروا إلى مراجعة اللغات والبحث فيها، فنشأ من ذلك علمان:
- علم اللغات La Philologie
- علم الأساطير ومعارضتها La Mythologie Comparée
وبذلك وضع الأستاذان "كريم" و "بوب" Jacob Grimm (1785 – 1863)، Franz Bopp (1791 – 1867) علما يبين أصل اللغات وتحولها، ثم لما وقفوا على لغات الشعوب الصينية وقابلوها بلغات الأمم الفطرية التي درسها "المرسلون" المنبثون في كل قاصية، وضع الأستاذ "ف. همبولت"Humboldt علما سماه: دراسة اللغات "La Linguistique" وأول المشتغلين بهذه العلوم وأشهرهم من الألمان، وإن كان قد فكر فيها قبلهم بعض الفرنسيين.
ثم قال الرافعي: "ولم نجد لأحد من علماء العربية في التاريخ الإسلامي كله بحثا يشبه ما وُضع من تلك العلوم، حتى ولا في لهجات العرب أنفسهم ومعارضة بعضها ببعض، لأنهم لم ينظروا إلى اللغة بالعين الزمنية "التاريخ" التي تطمح إلى كل أفق، بل أخذوها على المعنى الديني الثابت الذي لا يتغير، وجعلوا عاليَها سافلها، فاعتبروا أصل الفصاحة إسماعيل عليه السلام، وإن لغته درست من بعده، ثم كانت في القرآن الكريم والبلاغة النبوية وهما أفصح ما عرف من الكلام، إلا أن قليلا منهم؛ كأبي علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، والزمخشري؛ قد أصابوا من ذلك محزّا جرت فيه أقلامهم؛ وكان أسبقهم إلى الغاية ابن جني؛ فإنه بحث في وضع اللغة ونشأتها وحكم اشتقاقها ومقابلة موادها بعضها ببعض..."
فالعربية إذن لغة حضارة امتدت عشرات القرون، بكل ما زخرت به من تنوع معرفي أو ديني كان لها بمثابة الحصن الحصين؛ لذلك أنها قدّمت نتاجا دينيا وحضاريا ومعرفيا لا يستهان به، فشكلت دائرة الأمة وخزان تراثها، وكانت لغة القرآن ولغة الحديث، فجمعت المجد من طرفيه: العروبة والإسلام.
ولكن لم تكن للغة العربية مكانة عالمية قبل الإسلام، إلا أنها كانت بين أهلها أجل وسيلة لنشر علومها.
لقد نظر العرب إلى الشاعر نظرتهم إلى الملك والأمير، وكل ما كان الشعر وفيّا للمبادئ والقيم كان وقعه أشد في مجتمع يعتبر الشعر ديوانا، وهي مكانة مرموقة أكدها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال في الحديث الصحيح: "إن من الشعر حكمة" ومن في الحديث تبعيضية يريد أن الشعر لا دخل له في الحسن والقبح ...
نظرة العرب إلى الشاعر
والمدار إنما هو على المعاني لا على كون الكلام نثرا أو نظما، فإنهما كيفيتان لأداء المعنى وطريقان إليه، ولكن المعنى إن كان حسنا وحكمة فذلك الشعر حكمة، وإن كان قبيحا فذلك الشعر كذلك، وإنما يذم الشعر شرعا بناء على أنه غالبا يكون مدحا لمن لا يستحقه وغير ذلك، ولهذا لمّا قال تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) ثنى على ذلك بقوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
ويروى الحديث: "وإن من الشعر حكما" قال ابن الأثير في النهاية: أي: من الشعر كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه، وينهى عنهما، قيل: أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس، والحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل، وهو مصدر: حكم يحكم، ويروى: "إن من الشعر لحكمة" وهي بمعنى الحكم.
وروي عن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه".
وقال الحمداني:
الشعر ديوان العرب ... أبدا وعنوان الأدب
منزلة الشعر والشاعر لدى العرب
ولقيمة الشعر السامية أعلى العرب مكانته لتتوارى الخطابة والخطيب بحضور الشعر والشاعر؛ وتتجلى مظاهر هذه المكانة الرفيعة باعتباره مصدرا ثقافيا معتمدا وحكما مقدما لديهم، "وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر (العيدان)، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنه (الشاعر) حماية لأعراضهم، وذبّ على أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنؤون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تنتج".
وكانت تعقد المجالس لسماع الشعر وإنشاده، وتقام الأسواق من أجل المفاخرة والمباراة بين القبائل عن طريق سلاح الشعر، بل إن القبائل التي لا ينبغ فيها الشعراء كانت تشعر بالنقص والضعة، وخمول الذكر والهوان.
أشهر أسواق العرب
ومن أشهر أسواقهم في الجاهلية "سوق عكاظ" التي كانت تعقد في واد بين مكة والطائف، في قبيلة هوازن. وكانت العرب تأتيه من أول ذي القعدة إلى عشرين منه، ثم تسي إلى سوق مجنة بأسفل مكة من قبيلة كنانة فتقضي فيه العشر الأواخر من ذي القعدة، ثم تسير إلى "سوق ذي المجاز" بناحية عرفة وتحميه هذيل فتقضي فيه الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة، ثم تسير إلى حجها.
ولبث صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم بمجنة وعكاظ يبلغ رسالات ربه. انظر فتح الباري.
ثم توارت أهمية هذه الأسواق في الإسلام، وبرز "سوق المربد" قرب البصرة، و "سوق الكناسة" قرب الكوفة.
ويضاف إليهما المساجد التي كانت تقام فيها المجالس الشعرية أيضا، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن رواحة وكعب بن زهير، وحسان الذي ينشد الأشعار في المسجد النبوي ينافح بها عن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الإسلام.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب سماع الشعر الرفيع البليغ، فعن عمرو بن الشّريد، عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئا؟" قلت: نعم. قال: "هيه" فأنشده بيتا. فقال: "هيه" ثم أنشده بيتا. فقال: "هيه" حتى أنشده مائة بيت.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.
إرسال تعليق