الإعجاز في القرآن الكريم: تعريف الإعجاز لغة واصطلاحا | شروط الإعجاز | أنواع المعجزات | خصائص الإعجاز
أولا: مفهوم الاعجاز:
تعريف الإعجاز لغة واصطلاحا:
تعريف الإعجاز لغة:
قال ابن فارس في مقاييس اللغة: (ع ج ز) العين والجيم والزاء أصلان صحيحان، يد ل أحدهما على الضعف، والآخر على مؤخر الشيء.
ومدار مادة ((عجز)) في اللغة على التأخر عن الشيء، والقصور عن فعله، ومنه دلالة الإعجاز على (الفوت والسبق)، وعدم القدرة على الإدراك.
تعريف الإعجاز اصطلاحا:
الإعجاز في الاصطلاح هو: "إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به".
ثانيا: شروط الإعجاز المسلَّم بها:
لكي يتم الإعجاز ويتحقق التسليم به لابد من توافر شروط ثلاثة في الأمر المعجز:
الشرط الأول: أن يوجد التحدي به:
فهو الذي يدفع إلى المعارضة من الخصم، وبغير هذا لا يكترث أحد لدعواه، على خطورتها.
الشرط الثاني: أن يوجد المقتضي للمعارضة من الخصوم:
كالدفاع عن معتقداتهم، وما ورثوه عن آبائهم، وما تواضعوا عليه من نظم حياتهم، وقواعد عباداتهم ومعاملاتهم. فمن جاء بدعوة تعارض هذا كله، وتسفه كل ما هم عليه، وترميهم بالضلال والغي، كان من الطبيعي أن توجد البواعث لمعارضته، وخصوصا عند تحديهم.
الشرط الثالث: أن تنتفي الموانع من معارضته:
فلو ظهر إنسان يدعي النبوة في أستراليا مثلا، وادعى أن معجزته كتاب عربي أنزل عليه، وهو يتحدى بعضا من العرب أن يأتوا بمثله، ولم يتقدم أحد لمعارضته، لم يثبت الإعجاز بذلك، لوجود الموانع التي تمنع القادرين على المعارضة من مقابلة التحدي لبعد مكانهم منه.
وقد توافت هذه الشروط الثلاثة في إعجاز القرآن.
فقد وجد التحدي بأبلغ صورة: تحداهم أولا أن يأتوا بقران مثله: (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) (الطور: 34). ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات: (أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) هود 13
ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله: (أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) يونس38
وهذا كله في القرآن المكي. ومع هذا كله عجزوا عن المعارضة، وهم فرسان البيان، ورجال البلاغة والفصاحة، والقران يخلب ألبابهم، ويؤثر في عقولهم وقلوبهم، ولا يملكون إلا أن يقولوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون (فصلت 26
وأكد ذلك تجديد التحدي في العهد المدني، ففي سورة البقرة دعاهم إلى التوحيد، ثم قال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) البقرة 23-24.
فهنا سجل عليهم أنهم لن يفعلوا، بهذه الصيغة المستقبلية. وفي هنا اقوى حافز لهم على المعارضة، لو كان لديهم ما يعارضون به، بل بذلوا الأنفس والأموال، وقاتلوا وقُتلوا، ولم يستجيبوا للتحدي.
وبهذا غلبوا وانقطعوا، وحق عليهم قول الله تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لاياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الإسراء: 88.
ثالثا: الآيات (المعجزات):
الآيات المعجزات نوعان:
- حسية.
- معنوية.
قد علمنا أن الآيات والمعجزات التي أيّد الله بها رسله نوعان:
النوع الأول: المعجزات الحسّيّة:
نوع معجزات حسية مادية، يدرك بالحس، ويشاهد بالعين. وآيات الأنبياء السابقين التي ذكرها القرآن من هذا النوع، كناقة صالح، وعصا موسى، وفهم سليمان للغة الطير، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص، وأحيائه الموتى بإذن الله، ونحو ذلك.
المعجزات المعنوية
النوع الثاني: المعجزات المعنوية:
نوع معجزات أدبي عقلي، كالقران الكريم، المعجزة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو معجزة معنوية لا مادية، وآية عقلية لا حسية.
الفرق بين المعجزات الحسية والمعجزات المعنوية:
1- أن الأول يعتمد على إدهاش الأبصار، وإخضاع الأعناق، بما يعجزهم من الخوارق المادية. والثاني يعتمد على إخضاع العقول، وإنارة البصائر، بما يعجزهم من العلم والحكمة.
ولهذا كان الأول لائقا بالأمم في طفولة النوع الإنساني، والثاني لائقا بها بعد أن ارتقت الإنسانية وبلغت رشدها. وفي هذا قال القرآن: (إن نَّشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين). الشعراء 4، لكن اقتضت حكمته ألا يشاء ذلك.
2- أن النّوع الأول ينتهي بانتهاء وقوعه، ولا يكون حجة إلا على من شاهده أو وصل إليه بالتواتر القطعي. وأما الثاني فيبقى ويستمر إعجازه إلى ما شاء الله.
ولما كانت الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، أيد الله الرسول المبعوث بها، بآية أو بمعجزة أدبية باقية ما بقيت السماوات والأرض، لتظل حجة قائمة على العالمين في كل زمان، مخاطبة للعقول، متحدية المعارضين.
ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: "ما من نبي من الأنبياء إلاّ أوتي من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" متفق عليه. إذ رواه الشيخان عن أبي هريرة (انظر: اللؤلؤ والمرجان: 93).
وفي ذلك يقول أمير الشعراء أحمد الشعراء أحمد شوقي في قصيدته نهاج البردة:
جاء النبيّون بالآيات فانصرمت...وجئتنا بحكيم غير منصرم...آياته كلما طال المدى جدد...يزينهن جلال العتق والقدم...
أن الآية -أو المعجزة- الحسية المادية، تدل على صحة النبوة والرسالة، ولكن بأمر خارج عن الرسالة؛ فعصا موسى، غير ما جاء به في التوراة التي أنزلها الله عليه، وإبراء المسيح الأكمه والأبرص، غير ما جاء به في الإنجيل الذي أنزله الله عليه.
أما المعجزة العقلية، فتدل على صحة الرسالة بموضوع الرسالة ذاتها، فالقران آية محمد الكبرى، ومعجزته العظمى، وهو -في الوقت ذاته- دستور رسالته، وموضوع هدايته. ولذا قال تعالى: (قد جاءكم بينة من ربكم وهدى رحمة) الأنعام 157، فالقرآن في نفسه بينة على نبوة محمد، وهو في ذات الوقت هداية ورحمة.
وإن السيوطي في بيانه لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: "ما من نبي إلاّ أعطي ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا)، أخرجه البخاري؛ أورد في كتابه الإتقان قولين عمن سبقه من العلماء:
قيل: إن معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به بأنّه سيكون؛ يدل على صحّة دعواه.
وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسيّة تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق، يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا.
ومن هنا نفهم الحكمة الإلهية في عدم استجابة الله تعالى لمقترحات المشركين الذين طلبوا من الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم خوارق حسية وآيات مادية، مثل الرسل السابقين، فأبى الله تعالى إلا هذا القرآن، وأنكر عليهم أن يسألوا آية غيره، وهو آية الله الكبرى لو كانوا يعقلون. يقول تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب ُيتلى عليهم، إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يومنون) العنكبوت 50-51
بلى، وان القرآن لكاف كل الكفاية لقوم يعقلون.
رابعا: وجوه إعجاز القرآن:
وقد اعتنى علماء الأمة بموضوع الإعجاز في القرآن أيّما عناية، وحاولوا استقراء وتقصي كل وجوه الإعجاز من دون تجاوز حد الاعتدال والاتزان في ذلك بحسب شروط العلم والمعرفة. وفي استعراضنا لأقوالهم في هذه القضية الهامة نحسب أنّي لن نخرج عن الأقوال التالية:
القول الأول: وجه إعجاز القرآن إنما هو الأسلوب، فأسلوبه مخالف لسائر الأساليب الواقعة في الكلام كأسلوب الشعر وأسلوب الخطب والرسائل.
القول الثاني: وجه إعجاز القرآن إنما هو خلوه عن المناقضة.
القول الثالث: وجه إعجاز القرآن اشتماله على الأمور الغيبية.
القول الرابع: وجه إعجاز القرآن هو الفصاحة، وفسرت بسلامة الألفاظ عن التعقيد.
القول الخامس: الوجه في الإعجاز هو اشتماله على حقائق الدين وتضمنته الأسرار وحقائق التشريع التي لا تزال غضة طريّة على وجه الدهر ما تنال لها غاية، ولا يوقف لها على نهاية.
القول السادس: الوجه في إعجازه هو البلاغة، وفسرت باشتماله على وجوه الاستعارة والتشبيه، والفصل والوصل والتقديم والتأخير، والإضمار والإظهار، إلى غير ذلك.
القول السابع: الوجه في إعجازه هو النّظم، فنظمه وتأليفه هو الوجه الذي تميز من بين سائر الكلام.
القول الثامن: وجه إعجازه، هو ما تضمنه من المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة في الفواتح والمقاصد والخواتيم. في كل سورة وفي مبادئ الآيات وفواصلها.
القول التاسع: الوجه في إعجازه هو تحقيق مسائل علمية وتاريخية كانت مجهولة للبشر. القول العاشر: وجه إعجاز القرآن هو مجموع هذه الأمور كلها فلا قول من هذه الأقوال إلا هو مختص به.
وبرغم هذه الوجوه العديدة للإعجاز في القرآن الكريم، بيد أن الإعجاز البياني هو الذي استأثر باهتمام اغلب العلماء وسيطر على مباحث المتكلمين في الإعجاز، سواء منهم من جعلوه الوجه الذي يصح به التحدي بالسورة الواحدة من القرآن ويفسر موقف العرب من المعجزة عصر المبعث، أو الذين ذكروا مع إعجازه البياني غيره من وجوه الإعجاز الأخرى التي لا مشاحة فيها، وإنما الخلاف لديهم في أن تنفصل عن إعجاز نظمه وبلاغته. هذا، وان المخرج الآمن من هذا الخلاف المتوهم لا يكون سوى بضرورة النظر إلى قضية الإعجاز في القرآن الكريم نظرا كليا شموليا، والذي يعتبر أن وجوه الإعجاز تلك تُرد في مجملها إلى شعب ثلاث متداخلة متكاملة،
تكون بمثابة مستويات متدرجة متصاعدة ينتفي التناقض والتنافر بينها، بل هي من قبيل المختلف والمؤتلف اذ تنصهر في بوثقته جميع الشعب خدمة للقضية الجوهرية المتمثلة في كون القرآن الكريم معجزة مستمرة إلى يوم القيامة.
فهي إذن ثلاث جوانب ينبغي أن يستحضرها كل مشتغل بموضوع الإعجاز في القرآن نظرا لما تمثله من لبنات أساسية في بنيانه الكامل التام.
خامسا: نشاط حركة التأليف في أوجه الإعجاز المختلفة:
هذا، وقد كتب العلماء والبلغاء قديما وحديثا حول (إعجاز القرآن) ووجوه هذا الإعجاز، والفت في ذلك كتب شتى:
1- فمنهم من عني بإخباره بالغيوب؛ سواء أخبار الغيب الماضي كما وقعت بها الإشارة إلى تحنيط جثة فرعون في قوله تعالى: ≫ فاليوم نُنجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ≪ (يونس 92) حتى اكتشاف جثَّتيه محنّطة في أوائل القرن الماضي بعد ثلاثين قرنا من الزمان ليكون آية لكل من يحارب الله ورسوله، أو تنبؤات غيب المستقبل التي وقعت كما أخبر في قوله: (غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلَبهم سيغلبون). الروم 2-3 وقوله تعالى: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) القمر:45. هذه الإشارات القرآنية المعجزة عن غيب الماضي وعن غيب المستقبل تناولها بشكل ُمسهب أحمد شوقي إبراهيم في مؤلفه معجزات الأنبياء والمرسلين في ضوء القرآن والسنة، ونجد صداها أيضا في مؤلف قصص الغيب في صحيح الحديث النبوي لصاحبة عمر سليمان الأشقر.
2- ومنهم من عني بالنَّظم والعبارة والأسلوب، أو ما يسمى (الإعجاز البياني). وقد كتب فيه القدماء مثل الباقلاني والرماني والخطابي والجرجاني والرازي وغيرهم، وكتب فيه المحدثون، مثل: مصطفى صادق كتابه (الوحي المحمدي) حيث جدد التحدي بالقران وبيّن المقاصد التّي جاء القرآن ليحققها في الحياة، وأنه يستحيل أن يأتي بها رجل أمي في أمة أميّة، وقد فاقت كل ما جاء به الفلاسفة والمصلحون.
ومثل ذلك المقالات التي كتبها العلامة محمد أبو زهرة في مجلة (المسلمون) الشهرية المصرية، تحت عنوان (القرآن دليل على أنه من الله). دون أن ننسى المؤلفين الجيدين "إعجاز القرآن الكريم في تشريع الميراث" و"إعجاز القرآن الكريم في تحريم الربا" لصاحبها الدكتور رفعت السيد العوضي، وهما من أحدث وأدق ما كتب في هذا اللون من الإعجاز. الرافعي، وسيد قطب في كتابه الرائع (التصوير الفني في القرآن). ومثله (مشاهد القيامة في القرآن) وطبَّقه في تفسيره (في ظلال القرآن، وكتاب الدكتور بدوي طبانة: (بلاغة القرآن)، والكتاب القيّم الأصيل للشيخ العلامة الدكتور محمد عيد الله دراز (النبأ العظيم)، وكتاب الدكتورة عائشة بنت الشاطئ (الإعجاز البياني للقرآن.
3- ومنهم من عني بالإعجاز التشريعي أو الإصلاحي الذي جاء به القرآن، كما فعل العلامة رشيد رضا في كتابه (الوحي المحمدي) حيث جدد التحدي بالقرآن، وبين المقاصد التي جاء القرآن ليحققها في الحياة، وأنه يستحيل أن يأتي بها رجل أمي في أمة أمية، وقد فاقت كل ما جاء به الفلاسفة والمصلحون. ومثل ذلك المقالات التي كتبها العلامة محمد أبو زهرة في مجلة (المسلمون) المصرية، تحت عنوان (القرآن دليل على أنه من الله)، دون أن ننسى المؤلفين الجيدين (إعجاز القرآن الكريم في تشريع الميراث) و(إعجاز القرآن الكريم في تحريم الربا) للدكتور رفعت السيد العوضي، وهما من أحدث ما كتب في هذا اللون من الإعجاز.
4- وفي عصرنا ظهر نوع جديد أطلق عليه (الإعجاز العلمي) ويقصد به: ما تضمنه القرآن الكريم من إشارات ودلالات على (حقائق علمية) كانت مجهولة للنّاس في وقت نزول القرآن، وتعتبر سابقة لعصرها، ولا ُيتصور أن تصدر عن رسول أمي في بيئة أميَّة، وفي عالم لا يعرف عن هذه الحقائق شيئا. وأكثر من اهتم بهذا اللون من الإعجاز: هم علماء الكون والحياة من الطبيعيين والبيولوجيين والرياضيين وأمثالهم، وبعضهم وصل إلى نتائج مقبولة وثمرات طيبة، وبعضهم بالغ مبالغات لا يقبلها علماء الشريعة ولا علماء الطبيعة. ولهذا يجب أن يكون عمدتنا في إثبات هذا الإعجاز، هو القضايا الواضحة ال ُمحكمة، التي لا مجال للشك أو للتشكيك في سبق القرآن بها، مثل أطوار الجنين، المذكورة في سورة المؤمنين، وسورة الحج، ومثل قاعدة (الزوجية) في جميع المخلوقات: (ومن كل شيء خلقنا زوجين) الذاريات 49، ومثل تقرير أن الماء اصل الحياة: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) الأنبياء 30 وأهم الكتب في هذا الباب كتاب الدكتور زغلول راغب محمد النّجار (مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة)، وكتاب الدكتور محمد راتب النّابلسي (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنّة) بجزأيه.
سادسا: تفصيل الكلام في الإعجاز البياني للقران:
وبما أن الناحية البيانية هي التي كانت الأساس في التحدي الأول زمن البعثة، فقد أولاها العلماء أوفر عنايتهم. وفي هذا يذكر ابن عطية الأندلسي (ت. 546 هجرية) في تفسيره ما نصه: (إن الله قد أحاط بكل شيء علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن الكريم، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن الكريم إلى آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك؛ فبهذا جاء نظم القرآن الكريم في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتهم الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصحيح أنّه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا نرى البليغ ينَقح القصيدة أو الخطبة حولا، ثم ينظر فيها ويغيّر منها وهلم جرا. وكتاب الله لو نُزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد.. وقامت الحجة على العالم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنّة المعارضة.
وانطلاقا من ذلك ركزت الكثرة الكاثرة من القُدامى والمعاصرين -على حد سواء- على ناحية نظم القرآن الكريم، اعتبارا منهم أن إعجاز القرآن -بمعنى عجز البشر عن الإتيان بشيء من مثله- متجسد في فصاحته وبلاغته ونظمه. أما بيان هذه الخواص الثلاث في القرآن فهو كما يلي:
خصائص الإعجاز:
أ-الفصاحة في ألفاظ القرآن الكريم:
أول ما يلاقيك ويسترعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره:
شكل القرآن الكريم:
فبالنسبة للشكل ما عليك سوى أن تدع القارئ المجود يقرأ القرآن ُيرتله حق ترتيله نازلا بنفسه
على هوى القرآن، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه. ثم انتبذ منه مكانا قصيّا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغنّاتها، واتّصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جردت تجريدا واُرسلت ساذجة في الهواء. فستجد نفسك منها بإزاء لحن عجيب لا تجده في كلام آخر لو ُجرد هذا التجريد، و ُجود هذا التجويد.
جوهر القرآن الكريم:
وأما بالنسبة لجوهر هذا التّأليف الصوتي، فإنّك إذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا، فطرقَت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة؛ فاجأتك منه لذّة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر وذاك يصفّر، وثالث يهمس ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النّفس وآخر يحتبس عنده النّفس... وهلم جرا، فترى الجمال اللُّغوي ماثلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاضلة، ولنضرب لك مثلا من هذا التناسق الصوتي في القرآن شكلا وجوهرا بقوله تعالى: (وقالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حَرضاً أو تكون من الهالكين≪ (يوسف 85)، فنلاحظ أن الآية الكريمة جمعت كلمات ثقيلة على السمع وثقيلة على النّطق معا مثل كلمات (تالله، تفتأ، تذكر، حرضا )، جاءت تلك الألفاظ خشنة الإيقاع لتصور ما في قلوب قائليها من غلظٍة وخشونة، فهم إخوة يوسف الذين ألقوه في الجب؛ هذه الألفاظ مناسبة لحال مشاعرهم تجاه أخيهم يوسف وتجاه حزن أبيهم عليه.
من ناحية أخرى، نَظمت الآية الكريمة تلك الكلمات الخشنة على السمع والنّطق فإذا هي نغم عذب وسلس، ولا شك في أن ذلك من ضروب الإعجاز في النَّظم لا يستطيع أن يأتي بمثله البشر.
ولقد كان من الممكن أن يستعمل النص القرآني ألفاظاً أَرق منها على السمع وأخف على اللسان:
فكلمة: تالله: التَّاء أقل حروف القسم استعمالا، وكان من الممكن أن تستعمل كلمة "والله" أو كلمة "بالله"، والواو والباء أخف في مخارج الحروف من التّاء.
وكلمة: تفتأ: ثقيلة على اللسان، وكان من الممكن أن يستعمل بدلا منها كلمةٌ أسهل منها في النُّطق، وأخف على السمع مثل تَبرح.
وكلمة: حرضاً: كلمة تكاد تكون مهجورة في اللغة، أخف منها على السمع كلمةُ عليلاً مريضا.. وإذا بالنص القرآني يجمع كل هذه الكلمات في عقد واحد وجملة واحدة في نظم أزال خشونتها على
السمع وقَلل من صعوبتها على اللسان، وفضلا عن كل ذلك، فالكلمات الثلاث المتتابعة في الآية تبدأ بثلاث تاءات متتابعة أيضا: (تالله تفتأ تذكر) وذلك يزيد الكلام خشونة على السمع وثقلاً على اللسان.
ولكن النظم القرآني حولها إلى جملة لها جرس صوتي مقبول وإيقاع جميل.. وكيف؟ التاء من الحروف المتفجرة، وإذا كانت مفتوحة زادت قُوة انفجارها، ولكن ُيقلّل من انفجارها وقوع سكون بعدها، لأن السكون بعدها يمنع انفجار حرف التّاء من طرف اللسان والأسنان والشفتين.
لذلك نلاحظ أن الكلمات الثلاث التي ابتدأت بحرف التّاء كان عقب كل تاء منها سكون، م ّما منع الانفجار في الجرس الصوتي واللَّحن الموسيقي، وحول خشونة اللَّفظ إلى سلاسة ورقَّة: (تالله تَفتَأ تذكر يوسف) كل تاء بعدها سكون.
ب- البلاغة في معاني القرآن الكريم:
إذا نفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك منه ما هو أروع وأبدع. ومن ذلك: "البيان والإجمال" في القرآن، لأننّا في كلام البشر نجد تصويرا لمعنى محدد واحد، أما في كلمات الوحي الإلهي في القرآن الكريم والحديث النبوي، فنجد تصويرا للعديد من المعاني، وتبيانا للكثير من أوجه العلم، فالكلمة في القرآن والحديث كالجوهرة، لها أوجه متعددة، إلى أي وجٍه نظرت رأيت نورا مبينا وعلما عظيما، يختلف عما رأيت في ما لو نظرت إلى وجه آخر منها، فإذا نظر
عدد من الباحثين إلى كلمة قرآنية وتدبّروها؛ لرآى كل واحد منهم فيها معنى غير المعنى الذي رآه الباحث الآخر؛ لأن كل واحد منهم نظر إلى وجه من أوجه الجوهرة لم يره غيره، وتختلف الآراء والأقوال فيها، ومع ذلك فكل هذه الأوجه المختلفة صحيح! لأنها أوجه مختلفة َبيَّنتها كلمة واحدة، وكلما ارتقى علم الإنسان، واتّسع فكره، استطاع أن ينهل من العلم في كلمات القرآن العظيم، ما لم ينهله السابقون، ولا تنتهي معاني كلمات القرآن، ولا تنضب.
نأخذ مثلا يوضح لنا هذا المفهوم حيث يقول الله تعالى: (والله يرزق من يشاء بغير حساب) البقرة: 212 إنّه حق ويقين، ولكنه فيه أقوالا مختلفة ومعاني متعددة.
- يرى منها قارئ: أن الله تعالى يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه.
- يرى منها قارئ آخر: أن الله تعالى يرزق من يشاء بغير تقتير، فخزائنه لا تفنى.
- ويرى منها قارئ ثالث: أن الله يرزق من يشاء رزقا لا تقع تحت حساب أو حصر. كل هذه المعاني المختلفة صحيحة، فكُلُّها أوجه متعددة من العلم، في كلمة قرآنية واحدة.
وكثير من الآيات القرآنية جاءت في أسلوب بلاغي عجيب لا نجده في كلام البشر، نأخذ مثالا على ذلك قوله تعالى: ≫ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، إنّا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص 7.
في هذه الآية الكثير من أوجه الإعجاز، إلا أنّنا نذكر منها وجها واحدا من وجوه الإعجاز وهو أنّها آية واحدة نجد فيها: أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
نجد الأمرين في قوله تعالى: (أرضعيه) وفي قوله: (فألقيه في اليم) ونجد النهيين في قوله تعالى: (ولا تخافي ولا تحزني) ونجد الخبرين بمعنى الإخبار في قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى) وقوله: (فإذا خفت عليه) ونجد البشارتين في قوله تعالى: (إنّا رادوه إليك) وقوله: (وجاعلوه من المرسلين) ولا نجد في كلام البشر جملة واحدة فيها أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان!
ومن غير البيان والإجمال، فإن بلاغة المعاني في القرآن الكريم تتميّز كذلك بالقصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، كما تتميز بخطاب العامة وخطاب الخاصة في الآن نفسه، فضلا عن إقناع العقل وإمتاع العاطفة، إلى غير ذلك من الخصائص التي لا يجاريه فيها الكلام البشري.
ج- صورة النَّظم:
وبالإضافة إلى كون المعاني في القرآن مسوقة على أبلغ سياق، فإن كل ما ذكره منها مسوق كذلك على أتم نظام وأحسنه وأكمله؛ لأنه إذا كانت الجمل في كلام البشر ترتبط بحروف العطف، لكننا نجدها في القرآن غير ذلك، فهناك جمل متعددة في القرآن الكريم لا تربطها حروف عطف، وهي مع ذلك ترتبط ببعضها ارتباطا وثيقا كما ترتبط لبنات البنيان وكما تأتلف خلايا الجسم وترتبط ببعضها البعض في تكامل وشمول وانسجام.
نقرأ مثلا قوله تعالى في أول سورة الرحمن: (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان) الرحمن 1-5 لا يوجد حرف عطف واحد يربط هذه الجمل الخمس، ومع ذلك نجدها مرتبطة مع بعضها البعض في المعنى ارتباطا وثيقا، وكأنها جملة واحدة.
استهلت الآية بالقول: (الرحمن) والرحمن منه كل الرحمة والنعم والخير للوجود جميعا، وأجل هذه النعم على العباد هي كلمات الله عز وجل وعلمه: (علم القران) ومن كلمات الله تعالى كان الوجود كله، فكل من في الوجود إنما خلق بكلمة من الله عز وجل، وأكرم المخلوقات عند الله هو الإنسان: (خلق الانسان)، ولما كان القرآن هو مصدر العلم والهداية وأن الإنسان إنما خلقه الله تعالى ليعبده على علم وعلى هدى من الله تعالى، قال تعالى: ≫ علمه البيان ≪ وبعد ذلك عدد أنواع المخلوقات الأخرى التي سخرها لهذا الإنسان في دقة وحساب ثابت: (الشمس والقمر بحسبان).
وإجمالا، فإن العلماء قد تحدثوا عن لغة القرآن المعجزة فأجمعوا على أنّها لغة تخرق العادة وتخرج على الإلف، وها هو الباقلاني في مؤلفه "إعجاز القرآن" يقول عنها: (إن إعجازه في نظمه وتأليفه وذلك أن نظمه على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وعلى اختلاف ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب وهذا أمر عجيب يخرج به الكلام عن حد العادة ويتجاوز العرف). على أن قارئ القرآن المتدبر له يلمس بيسر هذه الجوانب المتعددة من مظاهر إعجازه اللغوي.. إعجاز في موقع الكلمة من السياق.. وهيئتها من الاشتقاق وبنائها في التصريف.. وحركتها في الإعراب.. وجرسها في الصوت.. وظلالها في الخيال.. ووحيها في البيان.. وإعجاز في الإحكام تجعل التضاد توافقا.. والتباين تجانسا.. والتنافر تجاذبا، والترادف آحادا، والتكرار أصالة، والحذف ذكرا وإبانة.
فالكلمات والجمل كلها مترابطة ترابطا تاما بدون حروف عطف، وذلك من روعة النّظم القرآني، الذي لا يستطيع أن يأتي بمثله بشر؛ بحيث يحق لنا –عندئذ- أن نؤكد بدون تردد أنه من الناحية اللغوية البحثة، كان ظهور القرآن خلقا للغة جديدة، ولأسلوب جديد.
لتحميل هذا الدّرس
إرسال تعليق