علم المناسبات: أنواع المناسبات في القرآن: مراحل فقه المناسبات
رابعا: أنواع المناسبات في القرآن:
إن فقه المناسبات في القرآن الكريم ينبغي أن يكون على ثلاث مراحل متصاعدة لا تستقدم واحدة منها عن موضعها ولا تستأخر:
- المرحلة الأولى: الكشف عن المناسبات في السورة الواحدة:
أي النظر في جملة مسائل السورة على أنها أجزاء من وحدة مستقلة يرتبط بعضها ببعض في نظام واحد، ويأخذ كل منها في هذه الوحدة وضعا معينا يناسبه. يقول محمد عبد الله دراز في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم): "فعندما نريد أن نقدر جمال لوحة مرسومة لا ينبغي أن نحصر نظرتنا في جزء ضيق منها حيث لا نجد إلا ألوانا متنوعة تتجاور أو تتنافر أحيانا، بل يجب أن نرجع قليلا إلى الوراء، ليتسع مجال الرؤية وتحيط بالكل في نظرة شاملة، تستطيع وحدها أن تلاحظ التناسق بين الأجزاء والتوافق في التركيب. فبمثل هذه النظرة ينبغي دراسة كل سورة من سور القرآن الكريم لنق ّدر أبعادها الحقيقية. ولقد قمنا في الماضي أثناء تدريسنا بجامعة الأزهر - بتطبيق هذه القاعدة في دراسة لإحدى السور المدنية هي: (سورة البقرة) ولسورتين مكيتين هما (سورتي يونس وهود) ولم يكن اختيارنا لهذه السور عن قصد، وإنّما كانت كلها مقررة في البرنامج الدراسي. فالواقع أنّنا وجدنا أكثر مما كنا نتطلب من بحثنا. فكنا نبحث عما إذا كان هناك نوعا من الترابط في الأفكار التي تتناولها السورة الواحدة، ولقد وضح لنا بما أثار دهشتنا أن هناك تخطيطا حقيقيا واضحا ومحددا يتكون من ديباجة وموضوع وخاتمة. فتوضح الآيات الافتتاحية الأولى من السورة الموضوع الذي ستعالجه في خطوطه الرئيسية ثم يتبع ذلك التدرج في عرض الموضوع بنظام لا يتداخل فيه جزء مع جزء آخر، وإنما يحتل كل جزء المكان المناسب له في جملة السورة، وأخيرا تأتي الخاتمة التي تقابل الديباجة".
- المرحلة الثانية: الكشف عن المناسبات بين السورة والسورة:
إذ تجد بينهما نهاية التشابه ونهاية التمايز في الآن نفسه. كيف ذلك؟ إنك قد تقرأ السورة والسورة من القرآن فترى بينهما التشابه في المقصد والجوهر بل ربّما رأيت بينهما تمام التّطابق في المبتدأ والخبر، فإذا اختتمت إحداهما وافتتحت أخراهما خيّل إليك أنّك رجعت عودا على بدء، وهكذا ترى كما قال تعالى: (كتابا متشابها مثاني) (الزمر: 23) ولكنك لا تلبث أن تجد نفسك أمام شيء جديد من وسائل التأثير ومسالك الإقناع، وألوان العبر، وطرق الأداء بالإثبات والنفي والإجمال والتفصيل وما إلى ذلك. وهكذا ترى من تصريف السور في الغرض الواحد أنّك في استمرار وفي تج ّدد معا بينما أنت قد رأيت أمثالها.. (كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل واُوتوا به متشابها)،(البقرة: 25). غير أن اللون واحد والطعم مختلف 《يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل》 (الرعد: 4).
فلنضرب لك مثلا بسورتين وضعتا متجاورتين في القرآن وإن اختلفنا في وقت النزول، إذ يتعلق الأمر بسورة محمد المدنية وسورة الأحقاف التي قبلها وهي مكية، فيتبادر إلى الذهن - من الوهلة الأولى - أن بينهما نوع انقطاع ومفارقة، ولكن الذي يشعر به القارئ هو على عكس ذلك: كمال الانسجام وتمام الالتحام بين هاتين السورتين؛ فليقرأ أول سورة محمد: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)، وليقرأ صدر السورة التي قبلها إلى قوله: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) (الأحقاف: 5 )، وليقل لنا: هل يجد مفارقة بين هذين الحديثين ؟ ثم ليقرأ في ختام سورة الأحقاف قوله تعالى: 《بلاغ فهل يهلك إلاّ القوم الفاسقون》 (الأحقاف: 35)، وفي ختام سورة محمد قوله تعالى: 《وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم》(محمد: 38)، ثم لينظر هل يرى أحسن من هذا تقابلا بين البدايتين، وتوازنا بين النهايتين، وهل يرى في إحكام هذا النسق إلا صورة أخرى من صنع الذي أتقن كل شيء؟ لقد صدق الله: 《ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير》 (الملك: 4).
فإن ظن أن مجرد ذكر القتال في سورة محمد وعدم ذكره في سورة الأحقاف يباعد بين السورتين قلنا له: ألم تر كيف وضعت في آخر الأحقاف قنطرة لطيفة يكون العبور منها إلى هذا المعنى الجديد؟ فلقد كان الإنذار بإهلاك الفاسقين في آخر السورة الأولى خير توطئة للأمر بنوع من أنواع هذا الإهلاك في السورة التي تليها.
- المرحلة الثالثة: الكشف عن المناسبات في القرآن جملة:
أي النظر في مجموع سور القرآن على أنها أبواب من ديوان واحد قد قصد إلى ترتيبها فيه على هذا النحو؛ ذلك بأن القرآن رسالة مرسلة على يد رسول يبلغها إلى الناس: 《وأوحي إلي هذا القرآن ِلأنذركم به ومن بلغ》 (الأنعام: 19) هذه الرسالة آتية من رب الناس، ملك الناس، إله الناس، هذه الرسالة إذا لم نعرفها، إذا لم نقرأها كلها، كيف نفهم المراد؟ وكيف نطبق المراد؟ وكيف يحصل لنا المراد من المراد؟
ولمعرفة الوجه في ترتيب السور فقد قيل: إنه روعي في هذا الترتيب في الجملة البدء بأطول السور، ثم بأوسطها، ثم بأقصرها، فهذا وجه من النظر لا يخلو من الصواب؛ لأن شأن المبتدئ في التلاوة أن أن يكون أجم نشاطا وأوفر رغبة، وأتم استعدادا لقراءة المقالات الضافية، ثم تأخذ قوته في التناقص تدريجيا، بسبب ما يعتري الطبع الإنساني من الفتور والتراخي، فقدرت السور بحسب الطاقة والنشاط:
من المئين إلى العشرات، إلى الآحاد.
وهناك وجه آخر من التسلسل أعمق وأدق يهتدي إليه من جعل همه تدبر آيات الله من بداية القرآن إلى نهايته، وبحسبنا في هذه العجالة أن نقف على الحكمة في وضع الفاتحة أول القرآن ووضع بعض السور القصار في آخره، وأن نُلفت النّظر إلى أن كلاًّ من البدء والختام قد وقع موقعه الرصين، ووضع في قراره المكين، وأن المؤلفين حتى يومنا هذا مازالوا يتوسمون في مطالع كتبهم ومقاطعها هذا المنهج المثالي القرآني.
فموقع سورة الفاتحة من القرآن كلّه موقع الفهرس الذي يعرض بإيجاز محتويات الكتاب قبل الدخول في تفاصيله، فكل شيء في القرآن من الإلهيات، والنبوات، والمعاد، والأعمال، والأخلاق، وعبر التاريخ، قد وضعت مفاتيحه في هذه الكلمات القليلة بأسلوب لا يبدو عليه طابع العد والسرد، وإنّما هو ماء الحياة ينساب في جداوله غذاء للعقول والأرواح، فلا يمل ولا يخلُق من كثرة الترداد.
ثم إن لهذه السورة - وراء موقعها من جملة القرآن - موقعا خاصا من السورة التي بعدها، هو موقع الديباجة التي تبين وجه الحاجة إلى التعليم الذي يليها؛ ذلك أنّها صورت المؤمنين باسطي أيديهم ملتمسين الهداية من واهبها: (اهدنا الصراط المستقيم)، فكان حقّاً على المسئول القريب الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أن يتلقّى هذا الّدعاء بالقبول؟ وهكذا جاءت سورة البقرة معلنة في بدايتها أنّها ستسد هذه الحاجة وستحقق هذا الملتمس: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).
أما السور السبع القصار، فإ نها كلّها تحمل طابع الختم والإنهاء، وإن النّفس الذي يجري فيها لينادي بأنّها كلّها أشبه شيء بوصية المودع، فانظر إلى سورة الكوثر حين قضى الوحي مفصلا كيف التفتت إليه في نظرة جامعة لتعرف الرسول صلى الله عليه وسلم بمقدار ما انطوى عليه القرآن من النعمة الكبرى والخير العميم: 《إنّا أعطيناك الكوثر》 (الكوثر: 1). فكان ذلك أحسن فذلكة يختم بها كتاب وينوه بشأنه. ولما كان تعريف الرسول (صلعم) بنفاسة ما وصل إلى يديه ليس امتنانا عليه فحسب، بل هو تحريض خفي له على الحرص على تلك الهدية، لا جرم أن جاءت السورة التي تليها مقفية على هذا التفريط بالأمر المؤكد بالإستمساك بهذا الدين. وعدم التحول عنه مهما لجّ المعاندون: 《قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون》 (الكافرون 2-1) وكان طبيعيا بعد هذا الأمر والنهي، وبعد تقسيم الناس هكذا إلى معسكرين منفصلين في شأن الدين، أن تقرر عاقبة كل منهما؛ فأشارت إحدى السورتين التاليتين إلى عاقبة المتّقينالمستمسكين بما جاءهم: 《إذا جاء نصر الله والفتح》 (النصر:1)، وأشارت الأخرى إلى عاقبة أعدائهم وشانئيهم: 《تَّبت يدا أبي لهب وتَّب》 (المسد: 1)، ولم يكن هذا الأخير إلا تطبيقا لقاعدة كلية مهدت له آنفا في قوله تعالى: 《إن شانئك هو الابتر》 (الكوثر: 3) ثم كان مسك الختام أن بورك هذا الكتاب وحصن التحصين السماوي المنيع؛ وذلك بطلب الالتجاء إلى الإله الأحد الصمد في أن يحفظ للعالم هذه الهداية العظمى، برغم حسد الحاسدين، ووسوسة الموسوسين، الذين يلقون الشبهات في صدور الناس ليصدّوهم عن سبيل الله.
هذا نموذج من نسق السور كما رتّبها الله: طاب بدءا وختاما، وحسن مرتحلا ومقاما، ولا غرو فهو تنزيل الحكيم الحميد، ومن أحسن من الله حديثا.
راجع:
الإعجاز في القرآن الكريم
إرسال تعليق