سورة النور: الاسم | المناسبة | الفضل | الموافقة
أولا: بين يدي سورة النور:
تشترك كثير من سور القرآن الكريم في طرح موضوعات محددة، خاصة تلك التي تتناول المقاصد الكلية للقرآن الكبرى؛ فالتوحيد واليوم الآخر -مثلا- مقاصد قرآنية جامعة، وتتكون من موضوعات فرعية يتكرر ذكرها في كثير من السور، ولا يعني هذا التكرار في المعنى تكرارا للموضوع، فكل سورة عبرت عن هذه الموضوعات بأسلوبها الخاص، وكل سورة استقلت عن غيرها في بيان الموضوع الذي تعالجه من حيثيات متنوعة داخل الموضوع الكلي الواحد، وصول إلى تحقيق تلك المقاصد الكلية التي تحدد للإنسان أولويات العمل في أداء مهمة الخلافة وفق التصورات والتشريعات التي تقررت في هداية القرآن الكريم.
وسيعرض هذا النموذج الوحدة الموضوعية في سورة النور، ليمثل توضيحا إضافيا لتلك الوحدة الموضوعية التي تبرز وجها جديدا في إعجاز القرآن الكريم، وهو أن التحدي بسورة ل يتوقف عند حدود تضمن الكلام أرقى أساليب البلاغة والفصاحة والبيان، بل تضمنه – كذلك - وحدة موضوعية في
آيات السورة الواحدة، مع العلم أن غالبية سور القرآن، وخاصة المدنية منها، تنزلت في أوقات متباعدة، لاغراض متنوعة، ولاسباب نزول مختلفة، إلا أنها اتحدت في النهاية لتشكل موضوعا واحدا، كأنها نزلت مرة واحدة.
مواضيع سورة النور:
لقد تحدثت سورة النور عن قضايا لم ترد في سور أخرى، فقد بينت حد الزنا، والقذف، واللعان، ولم تتبين في سور أخرى. كذلك، استقلت سورة النور ببيان حادثة الإفك. وتحدثت عن غض البصر و حفظ الفرج مما لم تعرضه سورة أخرى بالطريقة نفسها. و تحدثت السورة الكريمة عن بعض الآيات الكونية، وتحدثت عن المنافقين حديثا مرتبطا بقضية السورة وموضوعها. كذلك استقلت ببيان آية التمكين في الرض...فكثيرة هي الموضوعات الفرعية التي استقلت سورة النور ببيانها، وتفردت بذكرها عما سواها
1- اسم سورة النّور ومناسبة التسمية:
ورد اسم النور الذي سميت به السورة في وسطها تقريبا، ليبين اسما من أسماء الله الحسنى، هذا السم لم
يسم به رب العزة إل في هذه السورة. ولم تسم سورة أخرى بهذا السم الجليل.
أما مناسبة التسمية فلأنها ذكرت تشريعات وقوانين النور الإلهي فيما يتعلق بالقيم والتعامل والخلاق. قال الشيخ الشعراوي رحمه الله : (وإذا استقرأنا موضوع المسمى، أو المعنون له بسورة " النور" نجد النور شائعا في كل أعطافها - ل أقول آياتها ول أقول كلماتها - ولكن النور شائع في كل حروفها، لماذا؟ قالوا: لن النور من اللفاظ التي يدل عليها نطقها، ويعرفها أكثر من أي تعريف آخر، فالناس تعرف النور بمجرد نطق هذه الكلمة، والنور ليعرف إلا بحقيقة ما يؤديه، وهو ما تتضح به المرئيات، وتتجلى به الكائنات، فلول هذا النور ما كنا نرى شيئا).
2- مما جاء في فضل سورة النّور:
روى الطبري بسنده، قال: استعمل علي بن أبي طالب ابن عباس رضي الله عنهم على الحج، قال فخطب الناس خطبة، لو سمعها الترك والروم لسلموا، ثم قرأ سورة النور، فجعل يفسرها. وفي رواية: والله لو سمعتها الترك لسلموا.
وروى الطبراني في "الوسط" عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وآوتهم النصار رضي الله عنهم، رمتهم العرب عن قوس واحدة، فنزلت:
"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون"
وروى البيهقي وغيره عن مجاهد مرفوعا، قال : (علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نسائكم سورة النور). وفي تفسير القرطبي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة: (علموا نساءكم سورة النور).
إن القدر المشترك بين هذه الروايات الواردة في فضل سورة النور، هو الإلماح إلى كون السورة عظيمة في مبناها ومعناها، لما تشعه وتبثه من نور الفضيلة والعفاف في المجتمع المسلم - لسيما النساء منهم خاصة -؛ ليكون نموذجا رفيعا بين المم، إلى الدرجة التي يغريها باللتحاق به والنجذاب إلى القيم التي قام عليها. فبحسب الموازين الربانية والمعايير الشرعية، يكون أهل هذه القيم السامية والخلاق العالية التي جاءت بها السورة، هم المرشحون - وليس سواهم – لنيل الإمامة الدينية في الرض؛ إذ كلما تحقق الشرط تحقق معه المشروط، ول يتخلف عنه أبدا.
3- نزول السورة النور والجو العاّم فيها:
من المؤكد أن سورة النور لم تنزل جملة واحدة، بل امتد نزولها على امتداد سنوات ثمانية من الهجرة النبوية، ففيها حادثة مرثد بن أبي مرصد الغنوي التي رجح بعض العلماء نزولها في أواخر السنة الولى أو أوائل السنة الثانية من الهجرة. وفيها حادثة الإفك التي وقعت في غزوة بني المصطلق، وقد رجح بعض العلماء نزولها في السنة الرابعة من الهجرة، وبعضهم ذكر أنها في الخامسة، وبعضهم قال في السادسة.ونزلقولهتعالى: "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادت أحدهما أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين"
وواضح أن السورة عالجت عدة مشكلات وقعت في المجتمع الإسلامي بعد الهجرة، وأجابت عن بعض التساؤلات التي ثارت فيه، وكلها قضايا متجانسة من حيث مضمونها، وهي متصلة بموضوع محوري واحد، يهدف إلى استكمال سنن التشريع الإلهي للمجتمع المسلم وتنظيم علاقة أفراده، وتطهيره من شهوات النفس وحظوظها، وشبهات القلب وأهوائه، حتى يكتمل نموه على منهاج التربية الإلهية التي تقررت أسسها في السورة الكريمة.
4- موافقة أول السورة لآخرها:
بدأت ببيان أن هذه السورة وما تضمنته من أحكام ومبادئ إنما هي من عند الله تعالى، فهو سبحانه أعلم بما يصلح عباده وما يفسدهم، وأن ما يختاره سبحانه وتعالى لعباده فر ٌض عليهم التزامه والعمل به، لن فيه تحقيق مصلحتهم الدنيوية، ونيل سعادتهم الخروية، ول يمكن تحقيق هذه وتلك إلا بما شرعه الله سبحانه، قال تعالى:
"سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون"
وختمت بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض، وعلمه بواقع الناس، وما تنطوي عليه حناياهم،َ ورجعتهم إليه، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم، وهو بكل شيء عليم؛ قال تعالى: "ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم" (النور: 64).
إرسال تعليق