التقديم و التأخير في بلاغة العرب: الأغراض البلاغية للتقديم والتأخير | مواضع التقديم والتأخير
لقد شرف الله اللغة العربية وخصها بالعديد من الميزات ولعل أهمها كونها اللغة التي نزل بها خاتمة كتبه السماوية ..
وهي إلى ذلك تمتاز بتنظيم تركيبي عجيب، جعل نظامها اللغوي فريدا من نوعه لدرجة أنك إذا أردت أن تعوض الكلمة الواحدة في التركيب بكلمة غيرها، يستحيل أن تجد مثلها في ذلك الجمال واللطف الذي تميزت به تلك الكلمة في ذلك التعبير، سواء من حيث لفظها أو أداؤها المعنى المراد والمقصود بعينه.
والتقديم والتأخير من الموضوعات التي نالت حظا وافرا من الحديث سواء من قبل النحويين أو من قبل البلاغيين الذين أولوها اهتماما زائدا لشرف اللغة التي يدرسون نظمها وتركيبها.
فائدة التقديم والتأخير
للتقديم والتأخير فوائد جمة تعبر عن مدى سعي العربية إلى تحصيل جمال التعبير والصياغة قبل كل شيء ، ولو كان ذلك على حساب الترتيب الذي وضعه الأولون لتراكيبهم.
أغراض التقديم والتأخير
هناك العديد من الأسباب والدواعي لتقديم المسند على المسند إليه لعل السبب المقدم عليها جميعا أن ذكره أهم من ذكر غيره، قال:
أ- لكونه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه.
ب- لتمكين الخبر في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقا إليه ..
ت- لتعجيل المسرة أو المساءة للتفاؤل أو التطير.
ث- لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر، أو أنه يستلذ به، وقد يقوم المسند إليه بنحو ذلك من الأغراض.
ج- قد يقوم المسند إليه بغرض تخصيصه بالخبر الفعلي ، وقصر هذا الخبر عليه ... .
ت- لتعجيل المسرة أو المساءة للتفاؤل أو التطير.
ث- لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر، أو أنه يستلذ به، وقد يقوم المسند إليه بنحو ذلك من الأغراض.
ج- قد يقوم المسند إليه بغرض تخصيصه بالخبر الفعلي ، وقصر هذا الخبر عليه ... .
وعلى هذه الأسباب مدار التقديم والتأخير ، وقد تكون هنالك أغراض أخرى تدعو إلى التقديم أو التأخير ، قد نعرج عليها فيما يلي من عناصر ، ضاربين لذلك أمثلة توضيحية .
أ- الأغراض البلاغية لتقديم المسند
1- التخصيص والقصر:
نحو قوله تعالى: (لله الأمر من قبل ومن بعد)
وقول الشاعر :
عذبة ٌ أنتِ كالطفولة
2- التفاؤل بما يسر المخاطب:
نحو : ناجح أنت - نجحت العملية / الجراحية
3- إثارة الذهن وتشويق السامع:
مثل قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)
4- التعجب:
مثل: لله درك!
5- المدح:
مثل: نعم البديل من الزلة الاعتذار
6- الذم:
مثل: بئس الرجل الكذوب.
7- التعظيم:
نحو: عظيم أنت.
8- مراعاة توازن الجملة والسجع:
نحو :(خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه)
ب- الأغراض البلاغية لتقديم المسند إليه
يقول السكاكي: "وأما الحالة التي تقتضي تقديمه على المسند فهي: متى كان ذكره أهم، يقع باعتبارات مختلفة: إما لأن أصله التقديم ولا مقتضى للعدول عنه ، ...، وإما لأنه متضمن للاستفهام، .. وإما لتضمنه ضمير الشأن والقصة .. وإما لأن في تقديمه تشويقا للسامع إلى الخبر ليتمكن في ذهنه إذا أورده..."
وهناك من ذكر غير هذا فتأمله
1- التشويق إلى الكلام المتأخر:
نحو قول الشاعر :
ثلاثة ليس لها إياب الوقت والجمال والشباب
2- تعجيل المسرة:
نحو قوله تعالى :(جنات عدن يدخلونها)
3- تعجيل المساءة:
مثل :السجن عشرون عاما لقاتل الطفلة .
4- للتبرك به:
نحو :الله سندي. ونحو : الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
5- تقوية الحكم وتقريره:
مثل: (والذين هم بربهم لا يشركون) (المؤمنون:59).
وبالعودة إلى ما كتب حول الأغراض البلاغية من التقديم والتأخير .. في كتب البلاغة قديمها وحديثها نلاحظ أن هناك عددا آخر من الأغراض نضرب عنها صفحا ونكتفي بما قلنا.
مواضع التقديم والتأخير
أ- ما يجب تقديمه ولو تأخر لفسد معناه
1- تقديم المفعول به على فعله:
كقولك : زيدا ضربت ، وفيه تخصيص له بالضرب دون غيره وهذا الذي ذهب إليه المؤلف رأي أغلب علماء البيان.
2- تقديم خبر المبتدأ عليه:
نحو: قائم زيد ، ..فإنك إذا أخرت الخبر فليس فيه إلا الإخبار بأن زيدا قائم لا غير من غير تعرض لمعنى آخر من المعاني البليغة
3- الظرف:
الغالب أن الظرف يرد للدلالة على الاختصاص كقوله تعالى : (إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم)
4- الحال:
فإنك إذا قدمت الحال فقلت: جاء ضاحكا زيدٌ فإنه يفيد أنه جاء على هذه الصفة "مختصا بها"
5- الاستثناء:
في نحو قولك: "ما ضربت إلا زيدًا أحدًا ، فإنك إذا قدمته فانه يفيد الحصر"
والملاحظ أن استفاضة الإمام عبد القاهر الجرجاني في البحث عن بالشواهد والأمثلة سواء القرآني منها أو الشعري للتدليل على هذه الأغراض إنما كان المراد به إثبات الحضور القوي لهذه النماذج التي ادعى البعض من البلاغيين أن الغاية الأولى من التقديم والتأخير هي الاهتمام فقط. ولعل المتفحص لكتاب الدلائل يلحظ هذا الكم الهائل من الأمثلة التي ساقها المصنف رحمه الله.
ب- ما يجوز تقديمه ولو تأخر لم يفسد معناه
ويقصد به كل كلام ورد فيه ذكر لشيئين أو أكثر ، وجاءت المذكورات متتالية ، فإن ترتيبها ذاك يكون لغاية معينة، وغالبا ما يكون الترتيب بذكر الأشرف فالأشرف ، ولو قدم المتأخر ما كان ذلك معيبا ، أو لو عكس الترتيب ما أخل بمعنى العبارة.انظر قوله تعالى فيما يلي : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا السماء)( يونس:61) وقوله تعالى:( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض)(سبأ:3). فقدم سبحانه مرة الأرض وفي آية أخرى قدم السماء والترتيب كما قلنا إنما يكون بحسب رغبة المتكلم لا غير ، أو كما يقول صاحب الطراز :" فأنت ههنا بالخيار، فإن شئت قدمت المفضول لما له من المناسبة لمطلع الكلام ، وإن شئت قدمت الفاضل لما له من رتبة الفضل "
وقد قسم الجرجاني رحمه الله مواضع التقديم إلى ما يلي:
أ- الاستفهام:
الاستفهام بالهمزة: إن موضع الكلام على أنك إذا قلت :"أفعلت؟" ، فبدأت بالفعل، كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده.
وإذا قلت: "أأنت فعلت؟" فبدأت بالاسم، كان الشك في الفاعل من هو، وكان التردد فيه.
ولا يخفى أن الغرض الحصول على إقرار من المخاطب بأنه الفاعل للذي تستفهم عنه أو كما قال الجرجاني: "واعلم أن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان، وإنكار له لم كان، وتوبيخ لفاعله عليه" وقد يكون الاستفهام بالهمزة لإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله. ومثاله قوله تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما)
ب- النفي:
إذا قلت: "ما فعلت"، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت انه مفعول، وإذا قلت: "ما أنا فعلت" كنت نفيت عنك يثبت أنه مفعول". وإذا قلت: "ما زيدا ضربت" فقدمت المفعول، كان المعنى على أن ضربا وقع منك على إنسان، وظن أن ذلك الإنسان زيد، فنفيت أن يكون إياه.
وعلى خلاف ما ذهب إليه البلاغيون فهناك من لا يرى أن يلحق بباب التقديم والتأخير في البلاغة العربية تقديم أداة النفي على اللفظ الدال على العموم ، ولا العكس أي تقديم اللفظ الدال على العموم على أداة النفي، يقول: "فهذه قضية فكرية تتصل بأصل بناء الكلام في أدائه للمعاني، وهي ترجع إلى قاعدة "سلب العموم أو عموم السلب" فإذا سلط النفي على العموم لم يلزم منه نفي جميع الأفراد، لأن المنفي حينئذ هو العموم لا جميع أفراده، وإذا سلط العموم على المنفي بأداة النفي فإنه يدل حينئذ على نفي جميع الأفراد" مثل: ليس كل إنسان كاتبا (بتسليط السلب على العموم معناها أن بعض الناس ليس كاتبا، وهذه جملة صادقة)، ولكن "كل إنسان ليس كاتبا" بتسليط اللفظ الدال على العموم على الجملة المنفية المسلوبة، وكأنك تقول لا أحد في الناس هو كاتب، وهذا الحكم لا يصدق، أي هو كاذب.
ج- الخبر:
والخبر نوعان:
أحدهما ظاهر غير مشكل: وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنص فيه على وجه واحد فتجعله له، وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر، أو دون كل أحد".
والثاني أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع انه قد فعل، وتمنعه من الشك، فأنت تبدأ بذكره، وتوقعه أولا –ومن قبل أن تذكر الفعل– في نفسه .. ومثاله قولك "هو يعطي الجزيل "
د – غير ومثل:
وهما مما يرى تقديمهما في الكلام، وقد ذكر علماء البلاغة العربية ان هاتين الكلمتين غير ومثل" تلازمان التقديم في التراكيب البلاغية إذا أريد بهما الكناية عن الشخص الذي يجري الحديث عنه". وىذلك نحو قول الشاعر أبي فراس الحمداني:
بلى، أنا مشتاق وعندي لوعةولكن مثلي لا يذاع له سر
ونحو قول أبي تمام :
وغيري يأكل المعروف سحتاوتشحب عنده بيض الأيادي
ونحو قول المتنبي في قصيدة يعزي فيها عضد الدولة ابا شجاع في عمته :
مثلك يًثني الحزن عن صوبهويسترد الدمع عن غربهولم أقل "مثلًك" أعنيبــه سواك يا فردا بلا مشبـــه
6- على سبيل الختم:
وبعد،
يبقى موضوع التقديم والتأخير من الموضوعات التي تناولها الدارسون بالعرض والتحليل للوقوف على مدى شجاعة اللغة العربية في الخروج على المألوف الذي جاء في تركيبهم، ولكن هذا الخروج على المعهود لم يكن ضربا من الخبط والعشوائية، ولكن كان له ما يبرره، وكانت له دواع اقتضاها التعبير أو المقام أو السياق الذي جاء فيه التغيير المتحدث عنه .. ومنها التقديم والتأخير .. لقد كانوا في كل ذلك يستقرئون كلام العرب من منظوم ومنثور، وخاصة القرآن الكريم، والشعر الذي كان وسيبقى ديوان العرب، الذي أرخ لحضارتهم، وكان خير خازن لكل أسرارهم، وأفضل أمين عليها.
والموضوع متشعب وواسع، ولا يمكن أن يحصر في هذه الصفحات القليلة،. وهو الموضوع الذي أسال الكثير من المداد.
وكما نعرف فأغراض النحو والبلاغة وغيرها من علوم الآلة التي وضعها علماؤنا إنما كان الهاجس الأول وراءها هو خدمةً اللغة العربية للحفاظ عليها من الدخيل، والسقيم، ومما يشوب التعبير السليم، وبالتالي كانت كلها في خدمة القرآن الكريم الذي نزل باللغة العربية، لغة أهل الجنة.
عبد الكريم الدخيسي
راجع:
ماهو الفرق بين الطب امنيتي وامنيتي الطب
ردحذفإرسال تعليق