الإِعْجَازُ القُرْآنِيُّ عِنْدَ عَبْدِ القَاهِرِ الجُرْجَانِيُّ
لقد ركز الجرجاني بخصوص الإعجاز القرآني على موضوع النظم. فكأن النظم القرآني من وجھة نظره الوجه الوحيد المشرق للإعجاز القرآني.
ولقد أثبت حقيقة عجز العرب عن معارضة القرآن الكريم وانقطاعھم دونه بعد أن تحداھم على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة واحدة من سوره فعجزوا عن ذلك كله.
ثم يرى الجرجاني أن القرآن بنظمه وحسن تأليفه (أي جمعه) قد حاز ھذه الفضيلة. وأن ھذا النظم كان مدعاة لأن يعترف العرب الذين تحدوا إلى معارضته أن الذي سمعوه ھو دون محاكاته قوى البشر ويضيق به ذرع المخلوقين لأنه كلام رب العالمين.
ولما كان القرآن الكريم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلّم الأمّي كانت بلاغته فوق بلاغة العرب أنفسھم الذين كانت لھم الأساليب وتملكوا كل شيء فيھا شعرا ونثرا ورجزا وخطبا، ليصل إلى حقيقة يعرفھا وھي أن العرب زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم كانوا القدوة في ذلك ومن عداھم تبع لھم وقاصر فيه عنھم.
إن الجرجاني يريد أن يقول: إذا كان العرب الذين نزل فيھم القرآن فتحدوا به فعجزوا عن الإتيان بمثله مع ما كان في جعبتھم من أدوات الفصاحة وألوان البيان، فمن الطبيعي أن يكون من بعدھم من الأجيال أعجز منھم في ذلك وتبع لھم.
بعد ذلك ينتقل الجرجاني إلى توكيد عجز العرب عن معارضة القرآن الكريم، ولقد اتخذ إلى ذلك سبيلا ملموسا من واقع أحوالھم ودلائل أقوالھم، إذ يؤكد أنه إذا ثبت أنھم الأصل والقدوة فإن علمھم العلم. فلنا أن ننظر في دلائل أحوالھم وأقوالھم حين تلي عليھم القرآن وتحدوا به، ومثلت مسامعھم من المطالبة بأن يأتوا بمثله ومن التقريع بالعجز عنه، وبث الحكم بأنھم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه.
وإذا نظرنا وجدناھا تفصح بأنھم لم يشكوا في عجزھم عن معارضته والإتيان بمثله، ولم تحدثھم أنفسھم بأن لھم إلى ذلك سبيلا على وجه من الأوجه.
ثم يتناول الجرجاني دلائل أحوالھم، فيشير إلى أن الأحوال دلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف، وطبائعھم التي لا تتبدل، ألا يسلموا خصومھم الفضيلة وھم يجدون سبيلا إلى دفعھا، ولا يمتھنون العجز وھم يستطيعون قھره والظھور عليھم.
ويضرب الجرجاني لذلك مثلا بما وقع بين شعراء العصر الأموي من منافسة شديدة خاصة بين جرير والفرزدق، اللذين جعل كل واحد منھما ھمه أن يبرز الآخر حتى يقال أحدھما أشعر من الآخر.
وبعد ذلك يكشف الجرجاني عن ھذه الغريزة المتأصلة في النفس البشرية، ويطبق ھذه الفكرة على ما حدث للعرب منذ تاريخھم الأدبي، وكيف استبدت بھم ھذه الغريزة يوم سمعوا القرآن الكريم. ليصل الجرجاني إلى إظھار موقف العرب من ھذا القرآن، الذي جاء وھو يتحدى ھذه الغريزة في موطنھا وعقر دارھا.
فيتساءل كيف تقعد العرب -وخاصة قريش- مكتوفة الأيدي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحداھا بالقرآن الذي يعرفون ألفاظه ويدركون معانيه، دون أن يأتوا بمثله ولو بسورة واحدة. وھذا ھو التحدي المعجز لھم، بحيث لو أنھم جھدوا جھدھم واجتمعت معھم الإنس والجن ليعارضوه (أي ليقلدوه) ما استطاعوا، علما بأنھم لم يسمعوا إلا ما عندھم مثله أو قريب منه. فھل تسمع بذي عقل استطاع أن يخرس خصما له، قد اشتط في دعواه بكلمة يجيب بھا فترك ذلك إلى أمور يسفه فيھا، وينسب معھا إلى ضيق الدرع والعجز وإلى أنه مغلوب قد أعوزته الحيلة.
فھذا عتبة بن ربيعة، كان من صناديد قريش وعلمائھا النابغين، جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ليجمع له مالا إن كان يرد المال أو يملكه أو يزوجه، فلما أنھى مقالته قرأ عليه السلام قوله تعالى: (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) فصلت. فعاد عتبة متأثرا إلى قومه، فقالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما ھو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكھانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوھا لي. خلوا بين الرجل وبين ما ھو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: ھذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وھذا أبو ذر الغفاري يخبرنا أن أخا له يسمى أنيسا ذھب إلى مكة لحاجة له. فلما انطلق ووطئت قدماه تراب مكة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أن الله أرسله. فقال أبو ذر سائلا أخاه: وما يقول الناس فيه؟ فأجابه أنيس: يقولون ساحر كاھن..
وكان أنيس ھذا من الشعراء فقال: لقد وضعت قوله على إقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد. فقال والله إنه لصادق وإنھم لكاذبون.
ثم يتساءل الجرجاني ھل عرف في مجرى العادات وفي دواعي النفوس ومن الطابع أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه فلا يذكرھا ولا يفصح بھا ولا يجلي عن وجھھا، بل جعل أول جوابه له ومعارضته إياه التصرع إليه والسفه عليه.
وأما عن أقوالھم التي استشھد بھا الجرجاني فكثيرة. منھا ما حدث بھا الوليد بن المغيرة، حين وقف متحيرا أمام روعة القرآن لا يدري ماذا يقول فيه وقد وفدت جموع العرب في الموسم من كل مكان. فذھب إلى قومه يشاورھم في الأمر، فقاسوا ھذا القرآن على الشعر وھم أفذاذ فلم يجدوا ما يشبه شعرھم. وقرنوه بالسجع فلم يتفق معه. فلما أعيتھم الحيلة قالوا إنه سحر يفرق به بين المرء وزوجه وبين المرء وأخيه. إلى آخر ما قالوه من الترھات..
مُلَخَّصُ نَظَرِيَّةِ الجُرْجَانِيّ
يعد الجرجاني رائدا من رواد البلاغة القرآنية والنظم القرآني، ومن أھم كتبه في ھذا المجال "دلائل الإعجاز"، انتصر فيه لقضية المعنى والنظم على قضية اللفظ لأنه كان يخشى أن يبطل الإعجاز إذا أصبح محصورا في الألفاظ، لأن ميدان اللفظ الضيق ولا يتسع للإعجاز أما ميدان النظم فھو فسيح يتسع له. كما أن الجرجاني انتصر لفكرة الإعجاز في القرآن، وأثبتھا بنظريات وآراء قوية ومقبولة، وساند الانتصار لأھل السنة على المعتزلة.
كما أثبت أن التحدي والإعجاز في النظم والتأليف. والنظم عند الجرجاني ھو توخي معاني النحو، وعد أحكامه فيما بين الكلمات والجمل والفقرات. فالكلمات في الجملة لا يجمعھا إلا النحو، كما جعل الجرجاني البلاغة من مجاز واستعارة وكناية وتمثيل من لوازم النظم ومقتضياته وألوانه.
قد يثير انتباهك أيضا:
👈 المعجزة والقدر المعجز من القرآن
👈 الخطّابي ورأيه في الإعجاز القرآني
👈 الرّمّاني ورأيه في الإعجاز القرآني
👈 الباقلّاني ورأيه في الإعجاز القرآني
إرسال تعليق